أهم الخطابات

مقدمة > 23/4/1996 في الدورة المستأنفة للجمعية العامة منظمة الأمم المتحدة في نيويورك

قذفتنا اسرائيل بالنار وردّينا بوحدة اللبنانيين
أيها الرئيس،
يشكر لبنان لمنظمة الأمم المتحدة تجاوبها مع دعوته.
إن انعقاد الجمعية اليوم استثنائياً، للبحث في تفاقم اﻹعتداءات اﻹسرائيلية ضدّ لبنان هو موضع تقديرنا، كما هو فعل وفاء بمسؤوليتكم أمام وطن يتعرّض للعقاب بدون ذنب.
إسمحوا لنا بأن نتوجّه إليكم وإلى سعادة الأمين العام بالعرفان لما سجّلته المنظّمة الدوليّة من نشاط يخدم اﻹنسانية وقيم الشرعيّة الدوليّة، ومن دور مميّز في تعزيز التضامن الدولي على الرغم من الظروف الصعبة التي نشهد.
السيد الرئيس،
بعد انتصار لبنان على المحن التي دارت على أرضه طوال سبعة عشر عاماً،
وبعدما بدأ وطننا يعيد ترميم نفسه كما كان، منارة للحرية والديمقراطيّة، وللترقّي المدني والسلام:
إذ استتبّ أمننا الداخلي وانتشر الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعيّة في العاصمة والمناطق، ليبدأ باﻹمتداد الى جنوبنا الصامد كي يتولى، إلى جانب القوات الدوليّة المؤقتّة، المشكورة على تضحياتها، مهمّة تثبيت السيادة الوطنية هناك.
وإذ شرعت الدولة في إحياء مؤسساتها وإدارتها وفي تطبيق القانون، وفي معالجة آثار الحروب وذلك على الصعد الوطنيّة واﻹقتصادية واﻹجتماعية والتربويّة والبيئيّة، وفي مكافحة المخدرات زراعة وانتشاراً حتى انتزع لبنان اعجاب العالم كله بما أنجزنا في هذا المضمار.
كنا أتينا اليكم في العام 1991، وأطلقنا يومها من على منبركم نداءنا : "نريد حقنا".
ناديناكم الى التعاون بعدما حققنا أغلب بنود وثيقة الوفاق الوطني التي أجمع عليها اللبنانيون في الطائف في العام 1989، والتي حظيت بالمؤازرة العربية، وبالتأييد الدولي وبالأخص دعم الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
ناديناكم الى التعاون معاً على تطبيق قرار مجلس الأمن 425 الذي تضمنته هذه الوثيقة، والذي ينصّ على بسط سلطة الدولة في الجنوب والبقاع الغربي بواسطة قواها الذاتية، والذي أرسلتم بمقتضاه القوات الدوليّة المؤقتّة لتأكيد انسحاب القوات اﻹسرائيلية فور صدور هذا القرار أي في العام 1978 الى ما وراء حدودنا المعترف بها دولياً.
ولكن إسرائيل ضايقها نهوض لبنان، وسيره في طريق التعافي اﻹقتصادي واﻹعماري، ووقوفه لاستعادة سيادته على الأجزاء التي تحتلها في الجنوب والبقاع الغربي، فدأبت على ممارسة التعديات اليوميّة، واجتاحت جنوبنا في العام 1993، وفي الأسبوعين الأخيرين، رمت لبنان في جحيم النزف والتدمير.
كنّا ننتظر من العالم مدّنا بالعون لتطوير قدراتنا اﻹعمارية،
ولكن نأتي إليكم اليوم حاملين دم الأبرياء من مواطنينا ،
حاملين ذبح إسرائيل للأمل الذي وضعه لبنان في الشرعيّة الدوليّة ﻹحقاق الحق.
نأتي إليكم حاملين كرامة وطن جريح، ذنبه أنه لا يؤمن بالعنف والقوة سبيلاً لردع العدوان.
فوطننا كان على الدوام ويبقى مركز إشعاع ثقافي وحضاري، جسر لقاء بين الشرق والغرب، وكانت عاصمته جامعة الشرق، ومنتجع الشرق، ومقصداً لرجال الأعمال وللسيّاح من كل أنحاء العالم يحجّون الى روائع آثاره الطبيعيّة والتاريخيّة والعمرانيّة.
واللبنانيون هم رسل إعمار وسلام في بلدهم كما في أوروبا والأميركتين وآسيا وأفريقيا وأستراليا، ومنجزاتهم تدل عليهم ...
بأي منطق تحرق اسرائيل مثل هذا الوطن، وتقتل مثل أبنائه؟
كيف يجوز أن تدمّر إسرائيل ما أنجزه هذا البلد في ست سنوات، من تغلب على الأزمات وآثارها.
كيف يمكن تبرير استباحة بلدنا المسالم إذ تنتهك الطائرات الحربيّة اﻹسرائيلية يومياً أجواءنا، وتنتهك زوارقه مياهنا اﻹقليمية وتحاصر السفن التجارية الداخلة الى مرافئنا.
كيف يقبل العالم قتل المواطنين اللبنانيين بأفتك القذائف وبالتشريد والقهر واﻹذلال بينما هذا العالم تداعى الى اﻹستنكار في شرم الشيخ لانفجار ناقلة ركاب داخل إسرائيل.
كيف يقبل الشعب اﻹسرائيلي الذي ذاق طعم المذابح الجماعيّة في أوشويتز وتريبلنكا وغيرهما أن تبيد دولته أكثر من ماية امرأة وطفل ورضيع وكهل وشاب، وهم مدنيون أبرياء من قانا التي وطأتها أقدام السيّد المسيح وفيها بانت أولى عجائبه، لجأوا الى نقطة تمركز القوات الدوليّة هرباً من مجازر القصف والقتل، وثقة بحصصانة الشرعية الدولية، وكيف يقبل أن تبيد دولته عائلات في النبطية والعديد من القرى التي لم يتحصّن أهلها إلا بالصبر واﻹيمان بالله وبلبنان.
ماذا تريدون من لبنان، هل تريدون فيه مقابر جماعيّة تتحوّل الى مزار للعالم فيقول: هذا ما جنته أيديكم كما تشهد مقابر اﻹسرائيليين الجماعيّة على ما جنته النازيّة عليهم منذ ستين عاماً ...
كيف يجوز ﻹسرائيل أن تدمّر البنى التحتيّة والمنشآت الحيوية ومحطات توليد الكهرباء والشوارع والساحات والمستشفيات والبيوت والمعالم الأثرية وهي جزء من التراث العالمي على حدّ ما صنّفته منظمة الأونيسكو ...
لماذا اقتراف أشرس أنواع اﻹجرام ضدّ وطن نادى دائماً الى السلام، سلام الحق. كنا نودّ ن تتحدثوا عن لبنان الميزة السياسيّة واﻹقتصادية والثقافيّة في الشرق الأوسط، لكن هل تريد إسرائيل السلام مع بلدنا وممنوع على بلدنا أن ينهض.
بأيّ منطق لا يحق لنا أن نتمسّك بأرضنا وسيادتنا، ويحق ﻹسرائيل أت تقتني السلاح النووي، وأن ترفض التوقيع على معاهدة مراقبة وعدم انتشار الأسلحة النووية.
قذفتنا اسرائيل بكل النار، وكان ردّ اللبنانيين وحدتهم وتلاحمهم ذوداً عن الكيان وعن حقّنا بسيادتنا، كما كان التأييد الدولي لقضيّة لبنان حافزاً للصمود.
السيد الرئيس،
لقد دخلنا مؤتمر مدريد على أساس تطبيق القرارات الدوليّة وفي مقدمتها القرار 425 الذي تلقينا بشأنه، حتى نشارك في هذا المؤتمر، رسالة التأكيدات والتعهدات من اﻹدارة الأميركية بتطبيقه.
ودخلنا مؤتمر مدريد على أساس التضامن مع الأشقاء العرب على قاعدة تطبيق القرارين 242 و 338 ومبدأ الأرض مقابل السلام العادل والشامل والدائم في الشرق الأوسط (...)
نحن ما جئنا الى أعلى هيئة للضمير العالمي والى الجمعية العموميّة المؤتمنة على تطبيق الشرعيّة الدوليّة واحترام حقوق اﻹنسان حتى نبكي أو نشكو، بل لنقف جميعاً ومعاً وقفة حازمة وحاسمة في وجه الظلم والتعدّي وفي وجه استباحة المجازر من غير رقيب أو حسيب.
إن ما اقترفته إسرائيل في لبنان هو إدانة للضمير والمدنيّة، هو إدانة للشرعيّة الدوليّة التي باهى العالم الحرّ والمتمدّن بتأسيسها لوقف الحروب والتعديّات بين الدول الأعضاء.
ولبنان هو عضو مؤسس في منظمة الأمم المتحدة
ولبنان هو عضو مؤسس في جامعة الدول العربية
ولبنان هو أحد الأعضاء الذين شاركوا في صوغ شرعة حقوق اﻹنسان.
ولبنان ما وقف مرّة داخل منظمتكم وفي كل  المحافل إلا نصيراً لتحرير الشعوب ولقيم الديمقراطية والعدالة والسلام.
لبنان هو مع السلام العادل والشامل ولبنان كله هو مع سلام الحق.
إن لبنان يطلب:
أولاً: إدانة إسرائيل ومعاقبتها على الجرائم التي ارتكبتها ضدّ اللبنانيين وضدّ لبنان بمؤسساته وقدراته وسيادته وضدّ اﻹنسانية.
وهنا لا بدّ لي أن أذكر بأنه عدا الشهداء الذين سقطوا من الجيش والقوى الأمنيّة اللبنانية، فإن عدد الضحايا والشهداء بين صفوف المدنيين بلغ حتى ساعة مغادرتي أرض لبنان 175 قتيلاً ومنهم 109 قتلى في مجزرة قانا وحدها، أما عدد اﻹصابات فيربو على الألف، والجرحى الذين لا يزالون في المستشفيات فقد جاوزوا الأربعماية، بينما عدد المهجرين من أرضهم وبيوتهم فقد ارتفع الى خمسماية ألف.
ثانياً: تطبيق القرار 425 فوراً بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي تحتلها في الجنوب والبقاع الغربي الى ما وراء حدودنا المعترف بها دولياً، وعلى الأثر تتولى قواتنا الأمنية مسؤولية الأمن هناك ولطالما أعلنا : لتنسحب إسرائيل والدولة اللبنانية هي الضامنة للأمن في تلك المناطق.
ثالثاً: إقرار التعويضات اللازمة على الكوارث والأضرار التي حلت بلبنان بفعل اﻹعتداءات اﻹسرائيلية . وتقوم لجان مختصّة بتحديد وتقويم هذه الأضرار التي تفوق في النظرة الأوليّة مئات الملايين من الدولارات الأميركية.
السيد الرئيس،
لقد دفع لبنان طوال سبعة عشر عاماً ثمن صراعات الآخرين على أرضنا، فبأيّ منطق يفرض على لبنان أن يدفع ثمن سلام الآخرين.
إن منظمتكم أمام اﻹمتحان وشعبنا المضرج بالدماء يتطلع إليكم كما يتطلع إليكم التاريخ والمستقبل.
إنه امتحان الصدقيّة الدوليّة.
فإمّا أن تنتقل اﻹنسانية الى القرن الحادي والعشرين وهي أكثر ثقة بدور الشرعيّة الدوليّة، وإمّا أن تنتقل الى عصر الفلتان والهمجيّة (...)
في لبنان دماء بريئة أريقت، إنها تصرخ في كل ركن من أركان منظمتكم وفي ضمير كل الدول المحبّة للعدل والسلام (...)
تركت لبنان وأجراس الكنائس تدق حزناً، والمآذن تكبّر موشحة بالسواد،
ووصلت الى نيويورك حيث مقرّ الأمم المتحدّة المدافع عن حقوق العالم ولا سيّما الدول الصغيرة.
وصلت الى نيويورك فرأيت تمثال الحريّة واقفاً، إن رمز هذا التمثال كبلادي يناديكم : أعطوا صاحب الحق حقه.
مقابل سطوة القوة سنبقى نرفع راية الحق، مقابل ظلم العدوان سنبقى نرفع ضوء العدل، مقابل استباحة الوطن سنبقى نرفع حدّ الشرعيّة الدوليّة ...
لبنان لا يموت، سيبقى لبنان رافعاً راية الحق والسلام.

© حقوق الطبع والنشر 2024 - جميع الحقوق محفوظة