أهم الخطابات

مقدمة > 9/9/1994 مهرجان الباروك لعودة المهجرين

عودة المهجَّرين شهادة على انتصار الوحدة اللبنانية
أيها الأحباء،
المصالحة التي نرعى اليوم ليست مصالحة بين مختلفين أو بين خصوم , بل شئناها لقاء بين أصيلين.
الأرض أرضكم جميعاً. لا، ما راحت الأرض. ولكن أهلها يعودون اليها، انها أرض البطولات، انها الأرض التي تخضر بكم معًا , وتيبس اذا انفكتتم. تاريخنا واحد ومستقبلنا واحد، عيشنا واحد، وتراثنا واحد.
كلنا نمجد الوفاء لفخر الدين، وعامية انطلياس، والبطريرك الحويك، وكل الآباء المؤسسين للاستقلال لأننا كلنا من اجل لبنان.
المصالحة التي نرعى اليوم هي مصالحة الخروج من التقوقع والاستئثار الى الوطن كل الوطن.
فالبلد المتنوع لا يديره حوار طائفي، بل يقوده النهج الذي يعبر بالجميع من تعاقد الطوائف الى ميثاق الوطن، من حزازات التعصب الى المجتمع المدني العصري. واعلموا ان من كبر بطائفيته صغر عن لبنان، ومن كبر بلبنان وللبنان كبرت به طائفته.
المصالحة تتم حين يتحرر المواطن من الخوف واليأس، فالغرق في الخوف لا يخلق الشجاعة، كما الانغلاق في اليأس لا يبني الحضور.
المصالحة تتم حين يتحرر المسؤولون من إيثار مصالحهم الشخصية على حساب الوطن.
المطلوب ان نتصالح مع المؤسسات ومع منطق المؤسسات ونهجها ودورها.
الصراع الحقيقي ايها الأحباء ليس صراعًا بين الطوائف، وليس صراعاً بين العقائد، انه الصراع بين من يريد دولة ومن لا يريد دولة. انه الصراع بين من يريدون الدولة لكل الوطن ومن يريدون الدولة لأنفسهم.
المصلحة تكون حين ترسخ الدولة الاستقرار، والاستقرار أمن عسكري وأمن اجتماعي وامن اقتصادي وامن إنمائي وثقافي، وأمن وطني، وأمن الرعاية لكل المواطنين والمناطق بالإنصاف والتوازن.
بلدنا الذي أنهكه الهدم ونزف الدم، بلدنا الذي أعياه القهر المغرض والمفروض، بلدنا الذي هدته الهجرة وكواه التهجير، بلدنا الموجوع ,
هل نخفف عنه بالتشنج والتراشق بالتهم عند كل مفترق حاسم أو عند أي  شأن وطني؟
هل نحيي آمال الأطفال وشبابه بالمهاترات؟
لا أحد يلغي أحدًا، لا أحد يستوعب أحدًا، بل كلكم سواء. لا أحد وحده يبني لبنان، ولا أحد وحده يهدم لبنان.
معكم جميعًا ينهض الوطن، وبكم جميعًا تقوى الدولة، ولكم جميعًا يكبر لبنان، لولا وحدتنا لما انتصر سلامنا الوطني، وبوحدتنا نرد عن البلد اطماع الخارج وأخطاره، لا يستطيع أحد ان يعيد مسيرة الشعب الى الوراء، فاسهموا في تعجيل التقدم الى الأمام.
والاجتهاد في الرأي علامة الديمقراطية شرط ان لا ينَّفر المواطنين في الداخل ولا يسيء الى وزننا في الخارج.
كيف نفرض صدقيتنا على العالم وكيف نلزم الآخرين باحترام حقوقنا  ومصالحنا حين نشكك بعضًا ببعض.
كيف يتابع العالم إقدامه على دعم دورة الإنماء وعلى التوظيف عندنا حين يجدنا امام كل شأن مصيري نستهوي الإثارات والمبالغات.
 البلد بلد حرية. وكل المجال مفتوح أمام الجميع للاجتهاد. وان اختلفتم في الرأي يبقى الوطن يجمعكم. ولكن بلورة المصير الوطني لم تعد تحتاج الى المناحات والتحريضات الاعلامية.
من منكم هو اقل وطنية من الآخر؟
ومن منكم هو أكثر وطنية من الآخر؟
ان طريقة مواجهتنا للمشاكل تجسّد مدى وعينا ومستوى نضجنا السياسي والوطني.
المطلوب ان نكون كباراً امام الازمات، وان نكون كباراً في إرساء الحلول.
ان كثيراً من المخاطر بات وراءنا, ولكن الكثير من التحديات ما زال أمامنا.
تركة  خمسين عامًا تلقي بأوزارها المتراكمة، ومحنة ستة عشر عامًا تسحق باستحقاقاتها المتفاقمة.
هذا هو قدرنا وقدرنا ان نواجهها.
لقد باهى بعضنا يومًا انه اعتمد التأجيل فوجدنا الاستحقاقات تكبلنا جميعًا وتكلفنا أغلى الاثمان.
وباهى بعضنا انه اعتمد الانتحار هربًا منها، فوجدنا أنفسنا جميعًا امامها وقد تكبدنا أفدح الخسائر حتى كادت تضعف مناعتنا فإذا بالانفعالية تعصف على باب كل موقف مصيري.
أعداء لبنان : التحريض والتفريط والاستئثار، واعداء اللبنانيين : الفوضى والفساد والفرقة. ما كان أحلانا اليوم لو لم يكن على أكتافنا كل هذه الاعباء. نريد ان ننتهي من اسطورة "اعادة بناء ما تهدم" , منذ خمس سنوات ونحن نخوض معركة الاستعادات.
استعادة السيادة، استعادة الأمن والكرامة، استعادة الدولة بكل مؤسساتها، استعادة المهجّرين لبيوتهم وأرزاقهم، استعادة العافية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، استعادة الدور والمكانة.
منذ خمس سنوات وكل عملنا منصب على إزالة الحرب. لم نخرج بعد الى بناء المستقبل واستباقه. ان عقلية السلام الوطني تقوم أولاً وقبل كل شيء على دعامة الثقة المتبادلة.
وحين تنعدم الثقة بيننا، كلُّ الصلاحيات وكلُّ الاصلاحات وكلُّ المصالحات غرض لا طائل منه.
كل لبنان ضد التوطين، كل الشعب بكل فئاته ضد التوطين، كل الدولة بكل مسؤوليها ضد التوطين.
وليس الياس الهراوي من ينقض الدستور الذي نص بكل الوضوح على رفض التجزئة والتقسيم والتوطين.
نحن رئيس الدولة نؤكد لكم انه بيننا وبين  كل موقف وطني، أو شأن مصيري، سيبقى الدستور، ستبقى قدسية وفاقنا الوطني، وسيبقى جوهر عيشنا المشترك، ستبقى الارادة الوطنية الجامعة كما هو باق عزمنا واصرارنا على استكمال مسيرة السلام.
أيها الأحباء،
الحرية والوحدة والسيادة ستبقى منتهكة حين لا يعود المهجَّرون الى أرزاقهم وقراهم.
لقد قلنا غير مرة : لبنان بلا أبنائه المنتشرين هو أقل من لبنان، ولبنان بلا عودة المهجَّرين هو ليس لبنان.
ان المهجَّرين الذين تحملوا مآسي التشرد بلا ذنب، وظلوا على رغم معاناتهم مؤمنين بحقهم ووطنهم، ان هؤلاء يجسدون اصالة الإخلاص للبنان. والوفاء لهم يكون بتسريع عودتهم. لقد قطعنا شوطًا هامًا في هذا الاتجاه ومبادرات الدولة لم تكف، ولم يتوان مجلس النواب عن اقرار القانون بتخصيص اعتمادات لاستكمال عملية اعادة المهجَّرين الى مناطقهم وقراهم. هذا القانون سيمكن من تكثيف اعمال رفع الانقاض  والاخلاءات والترميم وإعادة الاعمار. كما ان جهود معالي الصديق وليد بك هي موقع تقدير جميع اللبنانيين، فابن الجبل الاصيل لم يتأخر عن ان يكون في المقدمة لإعادة الجبل كما كان على عراقة وحدته. اليوم في الباروك وغدًا مع اكتمال البنى الضرورية في مزرعة الشوف ومعاصر الشوف وكل الشوف ساحلاً وجبلاً وفي كل منطقة من لبنان. ذلك ان عودة المهجرين تشكل الشهادة الساطعة بانتصار وحدتنا اللبنانية.
أيها الأحباء،
الحرية والوحدة والسيادة ستبقى منتهكة حين لا نعيد أرضنا المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي الى كنف الوطن.
الحرية والوحدة والسيادة تبقى منتهكة طالما لا يزال لبناني واحد في المعتقلات والسجون الإسرائيلية.
نحن ضد العنف. نحن رواد سلام، والسلام الذي نعمل له هو سلام الحق.
ان قوانا العسكرية والأمنية التي نجحت في ضبط الأمن على أي شبر من أرضنا هي جاهزة لضبط الأمن هناك فور انسحاب القوات الإسرائيلية.
لقد نادونا الى السلام العادل والشامل على أساس تطبيق القرارات الدولية.
وسنبقى نحن وأخي الرئيس الاسد نذود عن حقوقنا المشروعة وطريقنا واضحة: تطبيق القرارات الدولية.
أيها الأحباء،
من الباروك نتوجه الى شباب لبنان والاجيال الطالعة لنقول لهم : لا تتعرفوا الى حقيقة بلدكم من التصاريح اليومية، بل اعرفوه من عمق تراثه وتاريخه، اعرفوه من وعيكم لضرورة ما يجب ان يكون لضمان مستقبله.
ولقاؤكم هذا هو حافز ثقة وعلامة انتصار لوحدة لبنان، أهلاً بكم جميعًا تعمرون الأرض بقيم السماء وبمواسم الهناء.
ان قلبي بكم اليوم كبير بمقدار ما يكبر بكم لبنان.

© حقوق الطبع والنشر 2024 - جميع الحقوق محفوظة